۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الأول فی النوحید

 

الوصل الثالث والثلاثون

فی المراتب المتعینة بالتعینات الاستجلائیة

قال:

«فأوجدت عالمَ الأرواح؛ أی عالم العقول والنفوس، فإنّ ظهور الوجود فیه أتمّ من عالم المعانی، ثّم عالم المثال، ثمّ عالم الأجسام. وفی هذا العالم تمّ ظهور الوجود، فإنّ ظهور التجلّی الوجودی، کمل وتمّ عند ایجاد الجرم الأوّل؛ أعنی محدّد الجهات(۱) الذی هو العرش الجسمانی مقام الاستواء فی کلام الالهی. ثمّ أنّ الترتیب المعتبر فی کلّ عالم من هذه العوالم وتفصیل المراتب المحصورة فیها، وتلخیص الحجج والبراهین فی کلّ موضع من هذه المواضع، قد أشبعنا القول فیها فی کتبنا المعمولة فی صناعة الحکمة».

أقول:

بعد فراغه عن تبیین المرتبة الإلهیة وما قبلها من المراتب المتعینة بالتعین الجلائی الذی هو مقتضی الکمال الذاتی الغالب فیه أحکام إطلاق الذات ووجودها الحقیقی علی أحکام تعینات الأسماء وظهورها الاعتباری، شرع یبین المراتب المتعینة بالتعینات الاستجلائیة التی هی مقتضی الکمال الأسمائی الغالب فیها أحکام التعینات، وظهورها الاعتباری علی أحکام إطلاق الذات ووجودها الحقیقی. فما کانت ظاهرةً فی المراتب الأوّل، بطنت فی هذه المراتب، وما بطنت هناک، هو الظاهر فی هذه المراتب، وکأَنّ من قال: باطن الخلق ظاهر الحقّ، وظاهر الخلق باطن الحقّ»، إنّما مراده هذا، وقبل

۱ـ وهو فلک التاسع. والجهات جمع منطقی لا الصرفی، وله جهتا العلیا والسفلی المطلقان.

(۱۵۱)

هذه المراتب لا یسمّی خلقا ولا إیجادا « لاندماج وجودها فی ذلک العالم» ولا غیر ذلک من الأسماء المشعرة بالفاعلیة المتمیزة من المفعول، وذلک لأنّ الإیجاد عند المحقّقین عبارة عن اقتران القوابل الأقدسیة الثابتة فی التعین الأوّل، الذی هو منبع التعینات والقوابل، بظاهر الوجود الذی هو طرف ظاهریة النفس الرحمانی « أی الفیض المنبسط»، ولا شک أنّ الحاصل من اقتران المتغائرین یغایرهما مغائرة الولد للأبوین والنتیجة للمقدّمتین، ویستقلّ دونهما بوجوده الخاصّ صالحا لأن تضاف إلیه الأحکام التی إنّما تضاف إلی المستقلّین کارتسام صور الموجودات وتُنسب إلیه الآثار المنسوبة إلیهما، فلهذا یطلقون علیه اسم العالم وعلی النسبة الواقعة بینه وبین مبدئه الإیجاد والخلق.

ثمّ إنّ هیهنا مقدّمة محتویة علی فوائد کثیرة الجدوی، لابدّ للمستبصرین من الوقوف علیها، وهی أنّ نسبة الفعل إلی الحقّ إمّا أن تکون لذاته بمعنی أنّ ذلک الفعل یلزمه بلا توسّط شیء بین ذاته وبین المفعول غیر نسبة معقولة بها یتمیز عن الإطلاق الذاتی، ویسمّی ذلک المفعول فی هذه المرتبة حروفا عالیات(۱)، وحروفا أصلیات ومفاتیح أُوَل، وتارة یعبّر عنها ب «مفاتیح الغیب» و«الأسماء الذاتیة» و«الشوؤن الأصلیة»، کلّ ذلک بحسب اعتبارات مترتّبة متنزّلة، فی التعین الأوّل.

وأمّا فی التعین الثانی الذی هو حضرة ارتسام المعلومات فی عَرَصَة العلم الذاتی، فمن حیث الامتیاز النسبی، وهذه الحضرة هی التی یشیر إلیها أکابر المحقّقین والمتألّهین من الحکماء بأنّ الأشیاء مرتسمة فی نفس الحقّ، لکن فرق بین ذوق الحکیم والمحقّق هیهنا، وهو أنّ الارتسام عنده إنّما هو وصف

۱ـ فالحرف مرکب من النقطة، فالنقطة هی مبدء کلّ حرف وکلمة، وهی الهویة المطلقة.

(۱۵۲)

للعلم باعتبار امتیازه النسبی عن الذات؛ لا أنّه وصف للذات أو وصف للعلم باعتبار أنّه تعینها، فتسمّی تلک الأشیاء بهذا الاعتبار حروفا معنویة وکلمات معنویة وأعیانا ثابتة، وتارة یعبّر عنها ب «الحقائق الإلهیة» و«الأسماء الربوبیة» و«الحروف الوجودیة»، وإمّا أن تکون بواسطةٍ بأن تکون بین الفاعل الحقّ وبین ما یوجده آلة وجودیة، أو صورة مَظهریة یستدعیها مرتبة المفعول، ویسمّی حینئذ إیجادا وقولاً، فإنّ هذه النسبة فی الکلام الإلهی مکنّی عنها بالقول، حیث قال: « إنّما قولنا لشیء إذا أردنا أن یقول له کن فیکون»(۱)، وتلک الأشیاء بهذا الاعتبار تسمّی کلمات وجودیة وماهیات وأعیان ممکنة، ولهذا یسمّی هذا العالم، عالم الأمر؛ لأنّ الأمر عبارة عن القول.

ثمّ إنّ الموجودات التی فی العوالم أقربها نسبةً وأبسطها ذاتا إنّما هو العقل الأوّل؛ إذ له ضرب واحد من الترکیب لا غیر، وهو أنّ له ماهیة متّصفة بالوجود، وهو أوّل مراتب الإمکان، وهو من عالم الأرواح، فأقرب العوالم نسبةً إلی المرتبة الإلهیة إنّما هو عالم الأرواح، فأوّل الموجودات المبدعة هو عالم الأرواح دون عالم المعانی، لاستقلاله فی الوجود وظهوره بحسب تعینه، وما یلزمه من إفاضة الأحکام وصدور الآثار دون عالم المعانی.

فإن قلت: فتسمیته عالما یکون بأی الاعتبار؟

قلنا: باعتبار أحد الوجهین اللازمین للصفات من حیث أنّها صفات، وهو الذی به تغائر الذات، ولمّا لم یکن لها بهذا الوجه وجود أصلاً، ما عدّوه من العوالم الموجودة؛ إذ عالمیته إنّما هی بالاعتبار فقط.

ثمّ عالم المثال لظهور المعانی فیه بصور الأشکال، وذلک معنی زائد حصل به ضرب آخر من الترکیب، ثمّ عالم الأجسام لعروض هذا کلهّ مع لحوقه

۱ـ النمل / ۴۱.

(۱۵۳)

التمکن وشغله للحیز، وهذا أنهی الغایة فی الترکیب، وبه تمّ ظهور الوجود؛ إذ لا مرتبة فی الظهور أشدّ من المحسوسات، وذلک لبلوغه فی الکثرة الإمکانیة، أقصی النهایة، صلح لأن یکون مُظهرا للوحدة الوجودیة؛ إذ ما جاوز حدّه « أی یکون متکثّرا»، انعکس ضدّه « أی یکون واحدا»، فعند إیجاد الجرم الأوّل « أی الجسم الکلّی وفلک الأفلاک»، وذلک هو العرش العظیم وعرش الرحمان « فکان العرش الجسمانی مظهرا للعرش الروحانی»، تمّ ظهور تجلّی الوجودی وکمل؛ إذ هو مقام الاستواء فی الکلام الإلهی، وهذا أحد معانی الاستواء بحسب اللغة، کما یقال: استوی الرجل؛ أی انتهی وتمّ شبابه.

فهذه ثلاثة عوالم، والمرتبة الجلائیة المشتملة علی التعینین المذکورین، فیکون المراتب حینئذٍ أربعة، خامسها هو الجامع لکلّ، وهو المرتبة الإنسانیة، وهذه المراتب ؛ أعنی المتعینة، هی المسمّاة بالمجالی عندهم والمنصّات والمطالع؛ إذ مطلق المراتب عندهم ستّة لدخول مرتبة غیب الهویة واللا تعین فیه، لکنّ المعتبر هیهنا إنّما هو المتعین منها، وللنَفَس الرحمانی السرایة فی هذه المراتب الخمسة(۱)، والظهور بحسبها، وأُمّهات مخارج الحروف الانسانیة خمسة أیضا، باطن القلب، ثمّ الصدر، ثمّ الحلق، ثمّ الحِنَک، ثمّ الشفتان، وهی نظائر المراتب فی النفَس الرحمانی، وقد روعی هذا الترتیب الإیجادی فی الکلام الإلهی والکتاب المنزّل السماوی، فإنّ أوّل مراتبه حرف، ثمّ کلمة، ثمّ آیة، ثمّ سورة، والکتاب جامعها.

وأمّا الکتب فهی أیضا من حیث الأمّهات أربعة، التوراة والإنجیل، والزبور، والفرقان، والقران جامعها، وکذلک سائر الموجودات؛ عقلیة وخارجیة، کلیة وجزئیة ، فإنّ الکلیات العقلیة مراتبها أربعة، سواء کان غیر مرتّبة کالجنس

۱ـ لیست النفس الرحمانی بداخل فی المراتب، بل هو الصادر الأوّل، ففی هذا التعبیر تسامح.

(۱۵۴)

والفصل، والخاصّة والعرض العامّ، والنوع جامعها، أو کانت مرتّبةً أیضا، کالجنس العالی والمتوسّط والسافل والمفرد، والنوع جامعها. وکذا الجزئیات الخارجیة، فإنّ الطبائع الموجودة فیها أربعة، والمزاج خامسها، ولذلک إن وقع ترکیب تلک الطبائع علی مقتضی الترتیب الوجودی یکون المزاج معتدلاً کاملاً فی الامتزاج، وإلاّ کان ناقصا غیر تامّ الامتزاج، فإنّ الأوّلیة فی ذلک الترتیب إنّما هی للحرارة، ثمّ للرطوبة، ثمّ للبرودة، ثمّ للیبوسة، وکلّ ذلک إنّما هو لسرایة الذات بحسب الأسماء الأربعة الأولی.

وهیهنا أسرار جلیلة المعنی، ونکت عزیزة الجدوی، ولیس هذا الکتاب موضع تفصیلها، لکن أومأنا إلی بعض منها علی الإجمال، تأمّل فیها، تطّلع علی بعض آخر؛ إن شاء اللّه تعالی.

ثمّ إنّ لکلّ عالم من هذه العوالم تفاصیل بحسب جزئیات مراتبه ونسب أحکام بعضها إلی البعض، کعالَم الأرواح مثلاً، فإنّ لها مرتبة العقول المجرّدة والنفوس الفلکیة والأرواح البشریة، ولکلّ من هذه المراتب مراتب جزئیة، ولها تفاصیل وأحکام خاصّة، وکذلک فی عالم المثال وعالم الأجسام، لکنّ المتکفّل لبیان هذا کلّه هو الحکمة الطبیعیة وما قبلها، فلهذا أحال المصنف، رحمه اللّه علیه، الکلام فیها علیها.

(۱۵۵)