۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الأول فی النوحید

 

الوصل الثانی والعشرون

فی أنّ الطبیعة المطلقة قائمة بنفسها فی الأعیان

قال:

«فلئن قیل: لو صحّ أن تکون حقیقة المطلقة من حیث هی مطلقةً قائمةً بنفسها بحسب الوجود فی الأعیان، من غیر أن تفتقر إلی اقترانها بشیء من المخصّصات والمعینات ویصدق علیها الوجوب بالذات بالبرهان، لم یتوجّه بوجه من الوجوه أن یورد هیهنا ما ذُکر من الاحتمال، ولم یصحّ منکم الشروع فی الجواب، والتزام الجواب مع أنّه عدول عن طریقة التوجیه، لا یفید فائدةً سوی تطویل الکلام وتکثیر المقدّمات وتمکین المخالف من المنع والنقض وتزییف البیان.

علی أنّا نقول: إنّا نعلم بالضرورة أنّ کلّ واحد من الوجودات الممکنة العینیة الخاصّة من أفراد الوجود العینی المطلق، کما أنّا نعلم بالضرورة أنّ الوجود الواجب بالذات المُنافی لکلّ واحد من الوجودات الممکنة الخاصّة من جملة أفراده.

قلنا: أنّ الذکی الحادس یعلم یقینا أنّ الکون العینی الکائن بنفسه فی الخارج، یمتنع أن یتکوّن فیه بشیء من الکائنات التی تتکوّن فیه به وبمقارنته، ولکنّ الجمهور إنّما یعتقدون أنّ حکم مطلقه حکم سائر المطلقات من الماهیات الحقیقیة العینیة، وینکرون الفرق بین الصورتین « أی التمیز الاحاطی والتمیز التقابلی»، ویبادر إلی أذهانهم الاحتمال المذکور، وحینئذ کان إبطال هذا الاحتمال بعد تسلیم کون الإیراد

(۱۰۶)

موجَّها، ولا یکون خارجا عن قانون التوجیه، ودفع سائر الشبه المانعة لحصول الیقین والقطع العقلی فی المحلّ الغیر المألوف بالقیاس إلی طباع الجمهور یکون مفیدا بالنسبة إلی من هو أشدّ ذکاءً منهم وأَبعد عن رذیلتَی البَلادة ورسوخ التقلید الوهمی والخیالی، ومن البین أنّ دفع سائر الاحتمالات والشبه، یکون إعدادا للأذهان الضعیفة، أن یلوح لهم الحقّ، ویکون منعا للحرکات الفکریة المشوّشة عن الاضطرابات المستفادة من الوساوس العادیة والتقلیدات المنکرة الراسخة فی النفوس الطالبة».

أقول:

هذا إشارة إلی ایرادَین صَعْبَین قد استشکلهما المستبصرون من أهل النظر غایة الاستشکال عند أکثر الأذکیاء من المخالفین هما الدّاء العضال(۱).

والحقّ أنّ کلاًّ منهما عِرق یتشعّب منه فنون الشغب(۲) والجدال، وأصل یتفرّع علیه أغصان الشبه وأفنان الاشکال، لا ینحسم مادّتهما إلاّ باستعانة من الحدس القویم وفکر عن شوائب التعصّب والتقلید سلیم.

أمّا الأوّل منهما فمبنی علی مقدّمة عدّوها من المسلّمات، لشدّة اشتباهها بها، وهی أنّ الطبیعة المطلقة من حیث أنّها مطلقة عند من ذهب منهم إلی وجودها لا یمکن أن تکون قائمةً بنفسها فی الأعیان بدون انضمامها بشیء من القیود، فإنّ وجود المطلق علی تقدیر وجوده فی رأیهم إنّما هو وجود المقید لا غیر.

إذا تقرّر هذا فنقول: لو صحّ أن تکون الطبیعة المطلقة من حیث هی مطلقة التی هی بدیهیة التصوّر عند الجمهور قائمةً بنفسها فی الأعیان بدون انضمامها

۱ـ أی: الشدید لا یقوم له صاحبه.

۲ـ أی: تهییج الشرّ.

(۱۰۷)

إلی شیء من المخصّصات، ویصدق علیها الوجوب بالذات بالبرهان، علی ما سبق تحقیقه آنفا، لم یتوجّه بوجه من الوجوه أن یورد هیهنا ما ذکر من الاحتمال، لا منعا ولا نقضا:

أمّا المنع؛ فلامتناع تطرّقه إلی مقدّمتَی الدلیل حنیئذ، أمّا الأولی، فلأنّها بدیهیة « أی وجود الطبیعة عند الجمهور بدیهی»، وأمّا الثانیة، فلأنّها مبرهنة « أی الطبیعة کانت قائمةً بنفسها».

وأمّا النقض؛ فلأنّ تخلّف الحکم من الدلیل إنّما یتصوّر فی ما لا یکون من أفراد ما استدلّ علیه، والطبیعة الملزومة لمّا کانت من أفراد المطلق من حیث أنّه مطلق، لا یصلح لأن تکون صورةً للنقض.

وإذا کان الأمر علی هذا الوجه، فلا یصحّ للعارف بطرق التحصیل وأنحائه أن یشرع فی جواب أمثاله: إذ الشروع فی جواب ما لا یرد علی قانون البحث وأسالیب المناظرة فی قوّة الخطاء، علی أنّ التزام الجواب مع أنهّ عدول عن طریقة التوجیه لا یفید فائدةً سوی تطویل الکلام، وتکثیر المقدّمات، وتمکین المخالف من المنع والنقض، وتزییف البیان، وکلّ ذلک محذور فی قواعد الجدل وقوانین البرهان.

وأمّا الثانی من الإیرادین، فتقریره: أنّه لو صحّ أن یکون الوجود المطلق من حیث أنّه مطلق واجبا للزم أن لا یکون الوجود وصفا مشترکا، بین سائر أفراد الوجود، والتالی باطل، أمّا الملازمة فظاهرة. وأمّا بطلان التالی، فلأنّا نعلم بالضرورة، أنّ کلّ واحد من أفراد الوجودات الممکنة العینیة الخاصّة هو من أفراد الوجود العینی المطلق، کما أنّا نعلم بالضرورة أنّ الوجود الواجب بالذات المنافی لکلّ واحد من الوجودات الخاصّة منافاة أحد القسمین للآخر أیضا من جملة أفراده.

(۱۰۸)

ثمّ إنّ هاتین الشبهتین لما فیهما من المقدّمات المقبولة المألوفة لأکثر أفهام الأذکیاء سیما تلک المقدّمة التی هی مبنی الشبهة وأساسها، یحتاج دفعهما إلی نوع من الحدس ؛ إذ به یخلص الذکی اللبیب عن ربقة الخطابیات المقبولة والجدلیات المموّهة والساذجة، وبسنُوحه(۱) تنحلّ عقود التقلیدات والاعتقادات الراسخة لما فیه من الخلوّ عن شوائب التصرّفات التعمّلیة الناشئة من القوی الإدراکیة العملیة العلمیة عند اقتناص المطالب النظریة.

ولما فیه من الرسوخ والطمأنینة اللازمة للعطایا الوهبیة الامتنانیة، وکانت النسبة بین الفکر والحدس فی طریق النظر کالنسبة بین السلوک والجذبة فی غیره.

فلهذا قال فی الجواب: إنّ الذکی الحادس « والجذبة للعارف کالحدس للحکیم» یعلم یقینا أنّ الکون العینی الکائن بنفسه فی الخارج، الذی وجود سائر الأشیاء فی الخارج إنّما هو بإشراق بارقة من بوارق نوره وظهورها بتناثر لمعة من لوامع ظهوره، یمتنع أن یتکوّن فی الخارج بشیء من الکائنات التی إنّما تتکوّن فیه به وبمقارنته.

ثمّ إنّ وضوح هذه المقدّمة فی مبادی العقول لمّا بلغ مبلغا لا یرتاب فیه من له أدنی تمییز فضلاً عن السّابقین فی مضمار غوامض العقلیات ومَغالق الیقینیات، أراد أن ینبّه علی مرامی سهام سُهوهم ومواطی خطوات خطائهم، اعتذارا منهم علی وقوعهم فی هذا الخطاء الفاحش والغلط الظاهر، ومن نفسه علی الاشتغال بجوابهم وتمکینهم من المنع والنقض، بقوله: «ولکنّ الجمهور إنّما یعتقدون أنّ حکم مطلقه حکم سائر المطلقات».

وتقریر ذلک: أنّهم لمّا رأوُوا أنّ لسائر المطلقات حکما وهو أنّ وجوده فی

۱ـ ما جاء عن یسارک إلی یمینک.

(۱۰۹)

الخارج لا یتحقّق إلاّ بعد تخصّصه بالفصول المقوّمة والعوارض المشخصّة، وبالجملة، إنّما ینظمّ إلیه الوجود الخارجی، ویتقوّم به فی ضمن أفراده، حسبوا: أنّ الوجود نفسه أیضا من هذا القبیل، فحکموا أنّ المطلق منه لا یکون قائما بنفسه، فلا یصلح للواجبیة ویجب أن یکون له مخصّص ومقوّم، حتّی یتقوّم فی الخارج ویصلح للواجبیة ومَثَلُ قیاسهم هذا فی المشاهدات، کمثَل من زعم فی المبصرات من المحسوسات، أنّه لمّا لم یمکن إدراک شیء منها بدون أن یظهرها نور من الأنوار، وذلک الإظهار إنّما یتمّ بعد أن یکون لذلک المحسوس سطوح متلوّنة، فلذلک النور أیضا لأنّه من المبصرات یجب أن یکون ظهوره بنور آخر بشرائطه، إلاّ أنّ الوهم لمّا کان لیس له دخل فی المشاهدات، لم یقع شک للمشاهدین فی المثال المحسوس، حتّی لو أورد هذه الشبهة علی الأعمی، لم یبعد أن یعجز عن الجواب، بخلاف المسألة المبحوث عنها، فإنّها لمّا کانت من المعانی العقلیة، کان الأمر فیه بالنسبة إلی أکثر العقول العدیمة البصیرة الواقعة تحت حکمی الوهم والخیال، کما وقع للأعمی، فی ما أورد علیه من المثال.

وهذا حکمة من جملة حِکم اللّه البدیعة، أنّ جعل الوهم حارسا لحضرته المنیعة أن تکون شریعةً لکلّ بصیرة حولاء وفطانة بتراء، إلاّ لعباده المخلصین الذین فتح اللّه بصیرتهم بنور الیقین حتّی رأوُوا الحقّ علی ما هو علیه بنوره المبین: « ومن لم یجعل اللّه له نورا فما له من نور»(۱). اللّهم اجعلنا ممّن لیس للشیطان علیهم سلطان(۲).

هذا کلام وقع فی البین، فلابدّ أن نرجع لما نحن بصدده، ونقول: إنهم لمّا لم یفرّقوا بین المطلق هذا وغیره من المطلقات، حتّی اعتقدوا أنّ حکم مطلق الوجود فی عدم تحقّقه إلاّ فی ضمن المقید، حکم سائر المطلقات من

۱ـ نور / ۴۰.

۲ـ فیعتقد الماتن أنّ جمهور الحکماء بل أجلّتهم کانوا فی مسألة التوحید الناشئون الکفیفون.

(۱۱۰)

الماهیات الحقیقیة العینیة المبهمة فی نفسها المتحقّقة بغیرها، لا یبعد أن یبادر إلی أذهانهم الاحتمال المذکور، وهو أنّ الواجب یجب أن یکون من الوجودات الخاصّة والتعینات الجزئیة، وإلاّ یلزم أن یکون الواجب ممّا لا یقوم بنفسه فی الخارج؛ بل یحتاج فی تحقّقه وقیامه فی الخارج إلی غیره، وحینئذ کان إبطال هذا الاحتمال بعد تسلیم کون الإیراد موجّها علی سبیل التنزّل لا یکون خارجا عن قانون التوجیه؛ بل دفع سائر الشبه المانعة لحصول الیقین والقطع العقلی فی المحلّ الغیر المألوف بالقیاس إلی طباع الجمهور، إنّما یکون مفیدا بالنسبة إلی من اختصّ منهم بفضل الذکاء فیکون التزامه فی نظر التعلیم واجبا.

وذلک أنّ جمهور أهل العقل من المناظرین إنّما یعتکفون عند المسلّمات والنظریات الغیر المحتاجة إلی شیء غیر ترتیب الضروریات والأوّلیات، وأمّا أمثال هذه المقدّمات المحتاجة مع ذلک الترتیب الفکری إلی ضرب من الحدس والذوق یکون فی غایة البعد عن طباعهم، فلابدّ من دفع الشبه المانعة لعروجهم إلی مراقی الحقائق، وذلک وإن لم یکن مفیدا بالنسبة إلی کلّهم، لکن یکون مفیدا بالنسبة إلی من هو أشدّ ذکاءً منهم وأبعد عن رذیلتی البلادة ورسوخ التقلید الوهمی والخیالی.

وهذا تلویح بأنّ الکلام فی هذه الرسالة لیس مع الجمهور من أهل النظر؛ بل مع من اختصّ منهم بمزید الذکاء وفضل التفطّن، ومع هذا کلّه یکون له حدس قوی وکشف ذوقی.

ثمّ لو سلّم أنّ دفع هذا الاحتمال لا توجیه له بالنسبة إلی المخالفین من الناظرین، لکن من البین أنَّ دفع سائر الاحتمالات والشبه الممکنة الورود بالنسبة إلی الطالبین والمسترشدین، یکون إعدادا لأذهانهم الضعیفة أن یلوح لهم الحقّ، فیکون منعا للحرکات الفکریة المشوِّشة لهم عن الاضطرابات

(۱۱۱)

المستفادة من الوساوس العادیة والتقلیدات المنکرة الراسخة فی نفوسهم القابلة الطالبة.

ولا شک أنّ التعرّض لما یوجب تنظیف المحلّ عن العقائد التقلیدیة الراسخة، وما یوجبه من الحرکات المشوّشة المانعة الذی هو هیهنا بمنزلة رفع الموانع، المعبَّر عنه بالتخلیة، واجب فی نظر التعلیم والتعلّم، کما أنّ التعرّض لما یوجب إعداد المحلّ من المقدّمات الیقینیة التی هی للاستفاضة بمنزلة المقتضی المسمّی ب «التحلیة» واجب فی هذا النظر.

(۱۱۲)