۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الثانی فی الإنسان الکامل

 

الوصل الثالث والستّون

فی ردّ ما أورده أصحاب التصفیة علی طریق أهل النظر

قال:

«وما قیل: إنّ علوم النظّار مأخوذة من الحواسّ وعلوم أصحاب المجاهدة المأخوذُ من المبدء الفیاض، فلیس بشیء، فإنّ الحواسّ هی المعدّات الأُوَل فی الطریقین، ومُفیض المعارف والعلوم هو المبدء الفیاض بالذات، أمّا الأوّل، فکونها معدّةً فی طریق النظر فظاهر، وکونها معدّةً فی طریق الآخر، فلأنّها لو لم تکن معدّةً لما تعلّقت النفس الناطقة ببدنه البتّة. ثمّ إنّ الکمال الحقیقی لابدّ وأن یحصل لها بعد انقطاع ذلک التعلّق بالموت.

فلئن قیل: جاز أن یکتسب من ذلک التعلّق ما یمنعه عن الوصول إلیه .

قلنا: فعلی هذا یجب حصول ذلک الکمال قبل تعلّقها وحینئذ لم تتعلّق به البتّة.

فلئن قلتم: فکما یکتسب من ذلک التعلّق ملکات مانعة للوصول، فلا یبعد أن یکتسب منه ملکات أخر تعدّ من جملة الأسباب والشروط المطلقة.

قلنا: فعلی هذا، قد رجعتم إلی ما هو الحقّ، واعترفتم به بعد ما أنکرتموه. وأمّا الثانی، فلما بینّاه فی کتبنا المعمولة فی صناعة الحکمة».

(۲۶۳)

أقول:

بعد إثبات حقیة طریق التصفیة ودفع شبهات أهل النظر علیه أراد أن یشیر إلی ما أورده أصحاب التصفیة علی طریق أهل النظر ودفعه.

وتقریر ذلک: أن علوم النظّار مأخذها الآلات الجسمانیة والقوی الحسیة الهیولانیة التی هی مثار الخطاء ومنشأ الغلط، دون علوم أصحاب المجاهدة وأرباب التصفیة، فإنّ مأخذها هو المبدء الفیاض الذی هو منبع الحقّ ومعدن الصدق بالذات بدون توسّط آلة جسمانیة ولا قوّة هیولانیة.

ولا شک أنّ ما یستفاض من المبدء بهذا الوجه، لا یمکن تطرّق الخطأ إلیه، دون ما یستفاد منه بطریق النظر بتوسّط الآلات والقوی(۱).

وجواب ذلک: أنّ القوی والحواس، هی المعدّات الأُول فی طریق التصفیة، کما هی فی طریق النظر، وأنّ المبدء الفیاض هو المفیض بالذات للمعارف والحقائق مطلقا ، لا اختصاص له بطریق دون آخر.

وأمّا بیان الأوّل فی کون الحواسّ معدّةً فی طریق النظر فظاهر، وکونها معدّةً فی الطریق الآخر، فلأنّها لو لم تکن معدّةً لما تعلّقت النفس الناطقة ببدنه البتةً، لحصول ما هو الغایة للحرکة الوجودیة بدونه، وعدم توصّل شیء من تلک القوی والآلات فی استحصال تلک الغایة. ولئن سلّمنا ذلک، لکن یلزم أن یکون الکمال الحقیقی هو الذی یحصل لها بعد انقطاع ذلک التعلّق بالموت.

فلئن قیل: لم لا یجوز أن یکتسب من ذلک التعلّق ما یمنعها عن الوصول إلیه؟

قلنا: فعلی هذا یجب حصول ذلک قبل تعلّقها به، وإلاّ یلزم امتناع حصوله لها مطلقا؛ لامتناع حصوله لها بعد التعلّق المستتبع للموانع، وحینئذ لم تتعلّق به البتّةً، لحصول الغایة الکمالیة بدونه وممانعته لها.

۱ـ عِلم العارف حاصل من طریقین: أحده یکون بلا توسّط من الحقّ، وثانیه یکون بتوسّط الحقّ من الحواسّ الظاهرة.

(۲۶۴)

والحاصل، أنّ أحد الأمرین لازم: إمّا عدم استتباع التعلّق المذکور لاکتساب الموانع، أو عدم احتیاج تعلّق النفس إلی البدن فی استحصال الغایات واستغنائها عنه بالذات.

فلئن قیل: إنّما یلزم ذلک لو کان التعلّق المذکور مستتبعا لاکتساب الموانع فقط، ولیس کذلک، فإنّه لم یکتسب من ذلک التعلّق ملکات مانعة للوصول فی بعض الموادّ، فلا یبعد أن یکتسب منه ملکات أُخر تعدُّ من جملة الأسباب والشروط المطلقة فی البعض الآخر.

قلنا: فعلی هذا قد رجعتم إلی ما هو الحقّ واعترفتم به بعد ما أنکرتموه، وذلک لأنّ المطلوب الأوّل، أنّ استعمال القوی الجسمانیة الحسیة والآلات الهیولانیة البدنیة من شأنه أن یکون معدّا للنفس فی استحصال الغایات الکمالیة إذا کان استعمالها علی ما ینبغی فی ما ینبغی، فإذا کان استعمالها علی خلاف ذلک، فلابدّ من استبتاعه ملکات مانعة عن استعمالها علی الوجه الأوّل، فتکون مانعةً لاستحصال الکمالات ضرورةً.

وأمّا بیان الثانی، فلما بینّاه فی الکتب الحکمیة أنّ المبدء هو المفیض لسائر المعارف والحقائق بالذات، فإنّه الخزانة الحافظة لها، وأنّ المقدّمات المستنتجة منها إنّما هی معدّات للاستفاضات.

لا یقال: فلا یکون حینئذ المبدء الفیاض مفیضا بالذات، ضرورة توقّف إفاضته علی استعداد المحلّ.

لأنّا نقول: إنّ احتیاج القابل فی استفاضته إلی الأسباب والشروط المعدّة لا ینافی استغناءَ الفاعل فی إفاضته عن تلک الأسباب والشروط، علی أنّه قد اعتبر فی طریق التصفیة مثل هذه المعدّات کتخلیة المحلّ وتصفیة الباطن وتوجّهه إلی المبدء وغیر ذلک من الشروط والأسباب المعتبرة عندهم علی ما سبق بیانه.

(۲۶۵)