۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الثانی فی الإنسان الکامل

 

الوصل الستّون

فی طریق التصفیة

قال:

«ومن جعل المعارف العقلیة والعلوم الیقینیة المستندة إلی البراهین القطعیة الحاصلة للإنسان المعتدل المزاج، الذی لم یستول علیه الرذائل الطبیعیة البدنیة من الخیالات الفاسدة والحجب المانعة للکمالات الحقیقیة لأنفسها، ولا من الأسباب المعدّة بالنسبة إلی ما هو من الکمالات الحقیقیة عنده، فمن الأولی الأخلق أن یعدّه من زمرة المجانین وأصحاب المالیخولیاء ومنکری العلوم الضروری.

وأمّا تکرار بعض الألفاظ المعینة حال المراقبة، فإنّما یکون سببا لاستمرار ما ذکرنا من الملاحظة(۱).

وأمّا قوّة الصوت وجهارته فغیر معتبرة عند أرباب الصناعة(۲) وأمّا التخلّی عن الخلق وملازمة المواضع الخالیة فإنّه ضروری لا یتصوّر بدونه تفریغ القلب عن الوساوس والشواغل المانعة والتبرّی من العلائق المظلمة والإقبال بکنه الهمّة علی اللّه بالکلیة، کما لا یتصوّر بدونه استنباط العلوم الفکریة الیقینیة والمطالب البرهانیة مجرّدةً عن الشکوک والشبهات الوهمیة والخیالیة، ومن شرط فی هذا الأمر وطریقه تناول الأغذیة الردیة « المحلّلة ولا المحرّمة»، فهو

۱ـ دوام الذکر موجب للأنس فی السالکین، وأمّا الواصلون فلهم طور آخر، فانّهم مأنوسون بالحقّ دائما، وهذا یوجب الذکر الدائم، ویقال بالفارسیة: مرغ را نتوان گفت در چمن خاموش.

۲ـ ولکنّ الجهر فی قراءة القران لازم فی بعض موارده لحظاظة قوّة السمع عنها.

(۲۵۱)

جاهل أو ممرور.

نعم، أنّ من السالکین من یناسبه غذاء معین دون غذاء آخر، ومنهم من یکون علی عکس ذلک، فإنّ الأمزجة مختلفة والصفات الذمیمة الطبیعیة الحاجبة بحسب ذلک أیضا مختلفة، ولا شک أنّ التدبیر بحسب الأغذیة والأدویة وغیرهما فی مداواة الأمراض النفسانیة إنّما یختلف حسب اختلاف تلک العلل والأمراض کما فی العلل والأمراض البدنیة.

وأمّا الجوع الشدید والسهر المفرط، فهو مذموم کلّ الذمّ فی طریق التصوّف والمجاهدة، کما هو مذموم فی طریق التعلّم والنظر. نعم القدر المعتبر عندهم من الغذاء، ما لا یسقط بقلّته القوّة، ولم یستول بها علی المزاج المَرّة، ولا تعرض من أذیتها الاضطراب والغفلة، ولا یوجب بکثرتها الکسل ولا یثیر الشهوة، ولا یوجب انصراف همّه عن جانب القدس وإقباله علی الهضم والتغذیة ودفع الفضول وتولید البراز وما یشبه ذلک.

وهکذا الکلام بعینه فی النوم والسهر. وبالجملة، فکلّ ما هو شرط فی أحد الطریقین، فهو شرط بعینه فی الطریق الآخر.

وأمّا ارتکاب الآلام والمشقّات وترک الراحات بالاختیار، فلا یجوز إلاّ بالنسبة إلی المستکمل الذی اعتاد الترفّه والتنعّم والراحة البدنیة واستولت علی مزاجه الشهوات، وغلب علیه أخلاق المخانیث والنسوان.

(۲۵۲)

وهکذا الکلام بعینه فی تحصیل الملکات المفیدة لهیأة الحزن والهمّ والبکاء وما یشبهها. وأمّا کسب الملکات المفیدة للذلّة وقلّة الحمیة والمسکنة وما یشبهها، فلا یجوز إلاّ بالنسبة إلی المرتاضین الذین غلب علی مزاجهم الغضب الشدید والعجب والتکبّر والقهر والسطوة وحبّ الجاه وما یشبهها.

ولا شک أنّ معالجة الأمراض النفسانیة وتخلیص النفس عن الأخلاق الردیة المهلکة، وتجریدها عن العادات الخبیثة المظلمة لا یمکن اتّصافها بملکات مرضیة وعادات حسنة تُقابل تلک الأخلاق الذمیمة والصفات الخبیثة بمقابلاتها، فإنّ دفع أحد الضدّین لا یمکن إلاّ بالضدّ الآخر کما فی معالجة الأمراض الجسمانیة « وکترک السلام علی المتکبّر».

ومن البین أنّ سورة أحد الضدّین متی انکسرت بسورة الضدّ الآخر ، حصل هناک حالة متوسّطة قریبة من الاعتدال، والمزاج الذی استولت علیه الشهوة الخبیثة البهیمیة متی انکسرت کیفیته الموجبة لتلک الحالة بسورة الکیفیة التی تقابلها مال إلی الحالة الاعتدالیة، وهکذا الکلام فی المزاج الذی غلبت علیه شدّة القهر وحدّة الغضب، فإنّه متی انکسرت کیفیته المفیدة لتلک الحالتین بسورة الکیفیة التی تقابلها، مال إلی الحالة المتوسّطة، وإن لم یتّفق الوصول إلی حدّ الاعتدال الحقیقی.

ولا یخفی علیک أنّ إخراج المزاج الواقع فی الحدود المقابلة لحدِّ الاعتدال إلی حدّ الاعتدال، باستعمال القوانین المعتبرة

(۲۵۳)

فی صناعتی الطب والحکمة، لا یکون أسقاما وتمریضا للبدن؛ بل یکون بالحقیقة إبراءً وتقویةً للنفس والبدن، وإفادةً لصحّتها.

ولا یتوهّم أنّ ما یکون علاجا لمرض معین فی محلّ جزئی بحسب وقت وحال معینین، یکون علاجا لسائر الأمراض الباقیة، فإنّ الأمراض النفسانیة إنّما یختصّ بعضها بالحدود الواقعة فی جانب الإفراط، والبعض الآخر بالحدود الواقعة فی جانب التفریط، علی أنّ مداواة مرض معین إنّما یختلف حسب اختلاف الأوقات والأحوال والموضوعات والعادات وما یشبهها، فتأمّل ذلک.

واعلم أنّ مخالفة النفس بالمعنی الذی ذهب إلیه العارفون، کما یجب اعتبارها فی طریق التصوّف، یجب أیضا اعتبارها فی طریق التعلیم والنظر، وقد أشرنا إلی ذلک فی کثیر من المواضع، فلا حاجة هیهنا إلی تکرار الکلام وتوضیح البیان، فاعرف ذلک…».

أقول:

هذا جواب الشبهة الأخیرة، وهی المشار إلیها فی صدر الرسالة من أنّ سائر ما یتوسّلون به فی الطریقة الحقّة علی مذهبهم المسمّاة بطریق التصفیة من الأعمال والأحوال، إنّما هو أسباب استیلاء المُرَّة السوداء علی الأعضاء الشریفة الإدراکیة وانحرافها عن صورها المزاجیة الاعتدالیة، فیرید إزاحة هذه الشبهة إثبات أنّ ما ادُّعی هنالک من الأمر فی ما زعموه، من اختلال أمزجة الأعضاء الإدراکیة وارتکاب أسبابه علی خلاف ما ظنّوه؛ بل علی عکس ما تخیلوه.

(۲۵۴)

فشرع یبین تلک الأعمال والأفعال والأحوال علی التفصیل، إنّها لیست موجبةً لانحراف الأمزجة عن الصورة الاعتدالیة الأصلیة، بل التزام تلک الأعمال إنّما هی لاسترداد تلک الأمزجة عن الانحرافات الحاصلة لها بواسطة تراکم الأهویة النفسانیة وتصادم الاقتضاءات والعادات الطبیعیة الهیولانیة إلی صورها الاعتدالیة الأصلیة بعبارة مبسوطة لا یحتاج إلی تطویل الکلام بتوضیحه.

لکن هیهنا مقدّمة جلیلة النفع لابدّ من التعرّض لها، وهی أنّ الصورة حیثما اعتبرت ؛ إلهیةً کانت أو کونیةً، تقتضی أن تکون دوریةً، وأنّ المرکز منها هو المَظهر للحقیقة الحقّة الموجودة بالذات أوّلاً، وأنّ سائر النقط الباقیة إنّما هی مظاهر النسب الأسمائیة والأعیان الاعتباریة، ولهذا لا یتمایز وجوداتها إلاّ باعتبارها إلی مقابلاتها، ونسبتها إلی أضدادها. وأمّا نقطة المرکز، فلیس لها مقابل ولا ضدّ ولا ندّ، بل هو الواحد الحقیقی الذی تعین به سائر النقط ومقابلاتها. وما سمعت من أنّ مظهر الوحدة الحقیقیة هو الصورة الاعتدالیة، إنّما المراد به هذا المعنی.

ثمّ إنّ کلّ ما کان من تلک النقط أقرب إلی المرکز، کانت آثار الوحدة والوجوب فیها أکثر، وأحکامها یکون أشمل، وکلّ ما کان أبعد، کانت آثار الکثرة والإمکان فیها أکثر، وأحکامها یکون أقلّ شمولاً وأقصر نسبةً لوجود مقابله بآثاره الخاصّة المقابلة لآثارها وأحکامها.

فحینئذ یکون الموجودات علی ثلاثة أقسام:

منها، ما یکون متوسّطا فی أحکام الوحدة والکثرة، وهی الحقیقة النوعیة الإنسانیة ؛

ومنها، ما یکون مائلاً فی ذلک إلی طرف الوحدة والبساطة، وهی العقول والنفوس المجرّدة؛

(۲۵۵)

ومنها، ما یکون مائلاً فی ذلک إلی طرف الکثرة، کالحیوانات والنباتات والجمادات .

ثمّ إنّ أفراد تلک الحقیقة النوعیة أیضا لسعة عرضها وإحاطة جامعیتها علی ثلاثة أقسام: منها، ما یکون بجمیع أحواله وأفعاله واقعا فی وسط العدالة، وهو الخلیفة الحقیقیة للحقّ والإنسان الکامل، ومنها، ما یکون واقعا إمّا فی طرف الإفراط أو التفریط، خارجا عن الصورة الاعتدالیة، فبحسب میله عن الصورة محتاج إلی العلاج والمیل عمّا فیه من المرتبة الخارجة إلی الطرف المقابل لها من المراتب الخارجة، حتی تحصل له المرتبة الاعتدالیة الأصلیة کما تقرّر فی أمر العلاج، إنّه إنّما یکون بالضدّ، وقد بین المصنّف جمیع ذلک فی المتن مفصلاً مبسوطا لا یحتاج إلی مزید من التوضیح .

(۲۵۶)