۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الثانی فی الإنسان الکامل

 

الوصل الخمسون فی الإیراد الثانی

فی امتناع حصول الکمال العرفانی

قال:

«ثمّ إنّ من البین أنّ الکمال الذی یقولون به، کالأمر الممتنع؛ لأنّه لو وصل إلیه السالک وأدرکه، لما أمکنه أن یعقله بالقوّة العاقلة، لاتّفاقهم علی أنّ العقل یستحیل أن یدرکه لکونه من الأطوار التی فوق العقل، فامتنع أن یصل إلیه القوّة العاقلة، فامتنع أن یتعلّق به شیء من القوی الجسمانیة المدرکة بالحفظ والإحساس والتخیل والمحاکاة، وهذا بین لا یحتاج إلی بیان زائد، فامتنع أن یعبّر عنه بشیء من العبارات. علی أنّ تجرّد القوّة الناطقة القدسیة عن القیود الطبیعیة، لا یتحقّق إلاّ بالموت ، ولا یتحقّق بالإعراض عنها بعدم التفاتها إلیها وإلی مقتضیاتها وأفعالها وغایاتها. وبین أنّ انحصار النظر فی الأمر المطلق ودوام الملاحظة له لا یوجب رفعها وصیرورتها فی حکم العدم. ثمّ إنّ الروح الناطقة لا یتجّرد بالموت عن کثیر من القیود التی هی من لوازمها وکالأجزاء بالنسبة إلیها».

أقول:

هذه شبهة أخری دالّة علی امتناع حصول غایتهم المطلوبة والوصول إلی غرضهم المرغوب فیه المسمّی ب «الکمال» عندهم، وذلک لأنّ الکمال الذی یقولون به کالأمر الممتنع، لأنّ حصوله یستلزم امتناع إدراکه، وکلّ ما کان حصوله مستلزما لامتناع إدراکه، یکون ممتنع التحصیل، فیکون الکمال

(۲۱۳)

المطلق عندهم أمرا ممتنع التحصیل، فیکون ممتنعا.

وبیان ذلک: أنّ من الأصول المقرّرة عندهم؛ أنّ الکمال الحقیقی المطلق لدیهم لو وصل إلیه السالک وأدرکه، لما أمکنه أن یتصوّر ذلک بالقوّة العاقلة، ویحاط بالصورة العقلیة، فإنّ الآراء متّفقة علی أنّ للعقل طورا خاصّا فی الإدراک، لا یمکنه أن یتجاوز عنه کما هو حال سائر المَشاعر، فإنّ لکلّ منها مرتبة مخصوصة فی الإدراک، ومدرکات خاصّة بها، لا یتعلّق إدراکاتهم إلاّ بها فی تلک المرتبة خاصّةً، فللعقل أیضا مرتبة مخصوصة فی إدراکه ومدرکات خاصّة بها، لا یتجاوز إدراکه عنها، فکما أنّ البصر مثلاً لا یقدر أن یتجاوز عن إدراک الکیفیات المبصرة ویدرک الأصوات والنِغَم، فکذلک العقل لا یمکنه أن یتجاوز عن إدراک الکلیات المعقولة ویدرک الحقائق الکشفیة والمعانی الذوقیة، فإذا امتنع أن یحاط الکمال المذکور بالصورة العقلیة، فامتنع أن یتعلّق به شیء من القوی الجسمانیة المدرکة، ویختصّ بحفظه وإحساسه وتخیله ومحاکاته؛ لأنّ القوّة العقلیة المجرّدة التی هی أقرب القوی إلی صرافة القدس وأبعدها عن اللواحق المادّیة والعوارض الخارجیة لا یدرکها، فهذه القوی الجسمانیة التی إنّما یدرک الأشیاءَ محفوفةً بالعوارض واللواحق أحْری بذلک، وهذا بین لا یحتاج إلی بیان زائد. وإذا کان کذلک، فامتنع أن یعبَّر عنه أیضا بشیء من العبارات، لأنّ الألفاظ إنّما وضعت بإزاء المعانی المعقولة، فما لم یعقل، لم یکن مدلولاً للألفاظ، لأنّ دلالة الألفاظ علی المعانی إنّما یکون بعد تعبیرها بالألفاظ والتعبیر مسبوق بتعقّل المعانی وانطباعها فی الحافظة، ثمّ تخیلها فی المتخیله، ومحاکاتها لما یحاذیه من الألفاظ، فإحساسها بالحسّ المشترک وتعبیرها بذلک عنها، فما لم یکن المعنی معقولاً ومتخیلاً، لم یکن أن یدلّ علیه بالألفاظ المحسوسة، والإشارات الوضعیة.

(۲۱۴)

فإذا تقرّر هذا، ظهر أنّه یمتنع أن یعبّر عن تلک الغایة التی هی الکمال عندهم بشیء من العبارات، فیکون من الممتنعات والمعدومات الصرفة ضرورةً، لأنّ کلّ ما لیس بممتنع ومعدوم صرف، فهو صالح لأن یعبّر عنه، فانعکس إلی قولنا: کلّ ما امتنع أن یعبّر عنه فهو ممتنع ومعدوم صرف.

وأیضا، فإنّ تجرّد القوّة الناطقة القدسیة عن القیود الطبیعیة التی هی هذه مبدء الأخلاق الردیة والأفعال الرذیلة علی ما التزموه لکونه شرطا للکمال عندهم لا یتحقّق إلاّ بالموت، ولا یمکن تحقّقه بمجرّد إلاعراض عنها وعدم التفات النفس إلیها وإلی مقتضیاتها وأفعالها وغایتها، فإنّ الملکات الطبیعیة لا یمکن أن یتخلّف عن الشخص بمجرّد التصوّرات والأفعال المضادّة لها.

وما قیل: إنّ دوام ملاحظة المطلق یوجب رفع القیود، لیس کذلک، فإنّ انحصار النظر فی الأمر المطلق ودوام الملاحظة له لا یوجب رفعها وصیرورتها فی حکم العدم، فإنّ الأمور الثابتة بالطبع اللازمة لخصوصیات المراتب التابعة إیاها وجودا وتحقّقا، لا یمکن أن یرتفع بمجرّد أمر اعتباری تصوّری من الملاحظة والمراقبة وغیرهما، علی أنّ الروح الناطقة بالموت أیضا لا یتجرّد عن کثیر من القیود التی هی من لوازمها وکالأجزاء بالنسبة إلیها، فکیف بدونه.

(۲۱۵)