۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الثانی فی الإنسان الکامل

 

الوصل التاسع والخمسون

فی کیفیة استحصال الانطلاق عن القیود

قال:

«وبُین أنّ دوام المراقبة والمواظبة علی ما ذکرنا من الملاحظة مع ملازمة الآداب والشروط المعتبرة عند أرباب هذه الصناعة وترک استعمال شیء من القوی الجسمانیة فی جذب الملاذّ الدنیویة ودفع المکاره البدنیة، ثمّ قهرها علی المطاوعة والمتابعة وممانعة اقتضاء ما یقتضیه القیود المذکورة، إمّا بحسب ذاتها، أو بوجوب مطاوعتها للهوی، والقوّة الوهمیة أو المتخیلة البدنیة إنّما یقهرها علی المتابعة والمدافعة عن توجّهها بالکلیة نحو البدن ویقید انجذابها نحو المادّة والکدورات المادیة، فإنّ الأسباب الفاعلة لا یبعد أن تصیر معزولةً عن بعض ضروب الفاعلیة، مقهورةً علی ضرب آخر یقابل الضرب الأوّل بأسباب أُخری قویة».

أقول:

هذه إشارة إلی دفع الاستبعاد الذی استشکلوه(۱) فی طریق استحصال الانطلاق عن القیود والإطلاق عن القیود المستتبع للمکاشفات الحقیقیة، بأنّ الملکات الراسخة والأفعال الطبیعیة، کیف یتخلّف عن موضوعاتها بمجرّد التصوّرات والاعتبارات العقلیة المسمّاة بالمراقبة والأفعال المضادّة لها.

وتقریر دفعه: أنّ دوام المراقبة التی هی عبارة عن ملاحظة الحقیقة المطلقة فی تنوّعات تعیناتها بحیث لا یغیب عن الواحد الظاهر بکثرة المظاهر، ممّا

۱ـ وقد سبق فی وصلی الحادی والخمسین والرابع والخمسین.

(۲۴۸)

یستجلب تلک الکمالات ویستحصل به سائر العلوم والمعارف.

وبیان ذلک إنّما یتمّ بتمهید مقدّمة، وهی أنّ إمداد الحقّ، سبحانه وتعالی، وتجلیاته متواصلة إلی العالم فیکلّ نفس، بل الموجود عند التحقیق لیس إلاّ تجلّیا واحدا یظهر له بحسب مراتب القوابل، واستعداداتها تعینات هی المبدء لهذه التعدّدات الظاهرة، وإلاّ فالتجلّی الفائض علی الممکنات من الحقّ، أحدی الذات، لکنّه إنّما یظهر بحسب أحکام القوابل، فمهما غلب فیها من الصفات والأحکام؛ وجوبیةً کانت أو إمکانیةً، یکون ظهور ذلک التجلّی فیها بحسبها منصبغا بذلک الغالب من الأحکام النسبیة الاعتباریة محقّقا بأحکامه وأوصافه الحقیقیة التی أوّلها العلم.

ثمّ إنّ الحقیقة القلبیة الإنسانیة، لسعة قابلیتها وإحاطة جامعیتها لتخریب البحر، الأسماء الإلهیة والحقائق الکونیة، وصلاحیتها للمرآتیة والمظهریة، جعلت موردة الأحکام الجزئیة والکلیة، فما برحت ظاهرة بأحکام ما خطر فیها؛ کلیةً کانت أو جزئیةً، إلهیةً أو کونیةً، متجدّدةً، منقلبةً فی تلک الأحکام، فإذا لم یخطر فیها شیء من الجزئیات ولم یغلب علیها حکم صفة علی التعیین ویطهر عن سائر العلائق بالکلیة حتّی عن التوجّه إلی الحقّ باعتقاد خاص، أو الالتجاء إلیه باسم جزئی، فإنّ ذلک التجلّی حینئذٍ یظهر بحسب أحدیة الجمع الذاتی بأوصافه الحقیقیة التی أوّلها رتبةً وأقربها نسبةً إلیه العلم. فعرفت من هذه المقدّمات: أنّ دوام المراقبة والمواظبة علیها أنسب وسیلة وأقرب طریقة لاستحصال العلوم والمعارف، سیما إذا کانت مع ملازمة الآداب والشروط المعتبرة عند أرباب هذه الصناعة من فطام(۱) النفس عن المألوفات وعدم الالتفات إلی الرسوم والعادات وترک مقتضیات القوی الجسمانیة الحیوانیة من

۱ـ أی: الفصال.

(۲۴۹)

البهیمیة الشهوانیة والسبعیة الغضبیة المستعملة فی جذب الملاذّ الدنیویة ورفع المکاره البدنیة، ثمّ قهرها علی المطاوعة والمتابعة للقوّة القدسیة، وممانعة اقتضاء ما یقتضیه القیود المذکورة، إمّا بحسب ذاتها أو بوجوب مطاوعتها للهوی والقوّة الوهمیة والمتخیلة البدنیة؛ إذ إسعاف مقتضیات القوی والقیود المذکورة إنّما یقهر القوّة القدسیة علی المتابعة والمدافعة عن توجّهها بالکلیة نحو البدن وتقید انجذابها نحو المادّة والکدورات المظلمة اللازمة لها، فإنّ الأسباب الفاعلیة لا یبعد أن تصیر معزولةً عن بعض ضروب الفاعلیة التی مبدءها اللواحق والقیود الإمکانیة، مقهورة علی ضرب آخر یقابل الضرب الأوّل بأسباب أُخری قویة، مثل ارتکاب المکاره وسائر ما یضادّ تلک المقتضیات، فإنّ من المقرّرات أنّ معالجات الأمراض إنّما هی بأضدادها.

(۲۵۰)