۱۳۹۵-۰۲-۲۱

التمهید فی شرح قواعد التوحید : الفصل الثانی فی الإنسان الکامل

 

الوصل الحادی والخمسون

فی النقد الثالث فی فساد الإدراکات العرفانیة

قال:

«علی أنّا نقول: إنّ الکمالات العقلیة المستندة إلی الحجج القویة والبراهین القاطعة الحاصلة للنفس الناطقة بالأفکار الصحیحة عند اعتدال مزاج البدن واعتدال أمزجة سائر الأعضاء والقوی الحیوانیة والنفسانیة والطبیعیة، لو صحّ أن یقال إنّها من المناقص والخیالات الفاسدة والحجب المانعة للوصول إلی الکمالات الحقیقیة، لصحّ أن یقال: إنَّ الإدراکات الحاصلة من تکرار بعض الألفاظ المعینة بالأصوات القویة المحلِّلة للأرواح النفسانیة، المدهشة للحواسّ البشریة؛ لاسیما عند التخلّی عن الخلائق والسکون فی مواضع المظلمة وتناول الأغذیة الردیة المولِّدة للکیموسات الفاسدة فی الأوقات المضرّة وملازمة الحالة المسمّاة عندهم بمخالفة النفس، من جملة الإدراکات الحاصلة لأرباب المالیخولیاء والمَمْرُورین الذین یقطعون بثبوت ما لا تحقّق له فی الأعیان لسوء ظنونهم وفساد أفکارهم، ویشاهدون صورا وأصواتا لا وجود لها فی الخارج أصلاً، لانحراف أمزجتهم وفساد بُنیتِهم.

وأمّا الحالة المسمّاة عندهم بمخالفة النفس، فهی بالحقیقة ایلام للروح وإتعاب للبدن بالجوع والسَهر المفرطَین المجفِّفَین للدماغ وأجزائه، المخرجَین لأمزجة الأعضاء

(۲۱۶)

والأرواح والبدن عن الاعتدال.

وبارتکاب الآلام والمشقّات وترک الراحات بالاختیار وتعذیب النفس بتحصیل ملکة نفسانیة تکلُّفیة، یفید الحزن والبکاء والهمّ والخوف والبُؤْس والذلّة وقلّة الحمیة والفقر والمسکنة وسقوط الهمّة، وینفی السرور والفرح واعتدال المزاج الموجب للذّة البدنیة والروحانیة. وهذه الحالة لا شک أنّها مسقطة للطبیعة ومضعِّفة للقوّة، موجبة لانحراف الأمزجة الإنسانیة عن الحالة الاعتدالیة، مفیدة لأمراض کثیرة، بعضها بدنیة، وبعضها نفسانیة، مُعدّة لقرب الموت وزوال القوّة الحیاة بالضرورة، فالإدراکات المتفرّعة علی هذه الطریقة، لا شک أنّها من جملة الإدراکات الفاسدة».

أقول:

هذه إشارة إلی الشبهة التی أوردها فی صدر الرسالة من أنّ القطع بما یخالف العقل ضرورةً، ممّا یدلّ علی استحکام سوء المزاج.

وبیان ذلک أنّ الکمالات العقلیة الحاصلة لأهل الاستدلال المستندة إلی الحجج القویة والبراهین القاطعة الحاصلة للنفس الناطقة بواسطة الأفکار الصحیحة عند اعتدال مزاج البدن واعتدال أمزجة سائر الأعضاء الآلیة من موضوعات القوی الإدراکیة وما یعاونها من القوی الحیوانیة والنفسانیة والطبیعیة بدون تحریک شیء منها ومیلها عن کیفیتها الاعتدالیة التی هی صورة الوحدة الحقیقیة ومظهر صورها ومحلّ ظهورها ومصدر سائر الأوصاف الحقّة والآثار الصحیحة، إنّما هی الکمال الحقیقی والإدراک العینی.

فلو صحّ أن یقال: إنّها من المناقص والخیالات الفاسدة والحجب المانعة

(۲۱۷)

للوصول إلی الکمال الحقیقیة، لصحّ أن یقال: إنّ الادراکات الحاصلة من تکرار بعض الألفاظ المعینة بالأصوات القویة المحلِّلة للأرواح النفسانیة، التی هی موضوعات العلوم والإدراکات المدهشة للحواسّ البشریة، المعاونة إیاها فی صدور آثارها الکمالیة، لا سیما عند التخلّی عن الخلائق والسکون فی المواضع المظلمة(۱) وتناول الأغذیة الردیة المولِّدة للکیموسات الفاسدة فی الأوقات المضّرة وملازمة الطریقة المسمّاة عندهم بمخالفة النفس المعلوم بطریق التجربة والقیاس العقلی أنّ ارتکاب شیء من ذلک یزید فی القوّة الخیالیة والوهمیة بمیل الصورة الاعتدالیة الدماغیة عن وحدتها المزاجیة اللطیفیة الإنسانیة إلی الیبوسة الکثیفة الحیوانیة. فمواظبة تلک الأمور واستدامتها، لا شک أنّها تُفضی إلی غلبتها علی الطبیعة جدّا، واستیلاء المرَّة السوداء علی سائر القوی المدرکة، فیکون الإدراک الحاصل لهم حینئذ من جملة الإدراکات الحاصلة لأرباب المالیخولیاء والممرورین الذین یقطعون بتحقّق ما لا ثبوت له فی الأعیان؛ لسوء ظنونهم وفساد أفکارهم، باختلال الصورة الاعتدالیة التی هی آلات تلک القوی، ولذلک یشاهدون صورا وأصواتا لا وجود لها أصلاً، ولانحراف أمزجتهم من الاعتدال وفساد بنیتهم بتطرّق الاختلال. وذلک لأنّ ظهور علامات الأمراض عقیب ارتکاب أسبابها ممّا یفید الجزم بوقوعها ضرورةً.

وأمّا الحالة المسمّاة عندهم بمخالفة النفس، فهی بالحقیقة إیلام للروح بارتکاب المکاره وما یکون علی خلاف ما تشتهیه وإتعاب للبدن بالجوع والسّهر المفرطَین المجفّفَین للدماغ وأجزائه التی هی من آلات القوی النفسانیة الفکریة المخرجَین لأمزجة الأعضاء الآلیة والأرواح النفسانیة؛ بل

۱ـ ولا سیما زیارة أهل القبور فی اللیل، فانّ له أسرارا خفیةً.

(۲۱۸)

والبدن کلّه الذی هو موضوع جمیع تلک القوی عن الاعتدال، وبارتکاب الآلام والمشقّات وترک الراحات بالاختیار وتعذیب النفس بتحصیل ملکة نفسانیة تکلّفیة، یفید الحزن والبکاء والخوف والهمّ والبؤس والذلّة وقلّة الحمیة والفقر والمسکنة وسقوط الهمّة بارتکاب الأمور الخسیسة والأوضاع الشنیعة واحتمال أذی الناس، وغیر ذلک ممّا یرتکبه الملامیة منهم.

وهذه کلّها مع أنّها من الأخلاق الخسیسة الواقعة فی طرف التفریط من العدالة الحقیقیة الکمالیة تُنفی السرور والفرح واعتدال المزاج الموجب للذّة البدنیة والروحانیة الذی به قیام العلاقة الحیوانیة.

فهذه الحالة لا شک أنّها مسقطة للطّبیعة، مضعّفة للقوّة، موجبة لانحراف الأمزجة الإنسانیة عن الحالة الاعتدالیة، مفیدة لأمراض کثیرة، بعضها بدنیة، وبعضها نفسانیة کما سبق، معدّة لقرب الموت وزوال القوّة والحیاة بالضرورة. فالإدراک المتفرّع علی هذه الطریقة « أی: الکشف والشهود»، لا شک أنّها من جملة الخیالات الفاسدة والإدراکات الباطلة.

(۲۱۹)